خطبة بعنوان: “رعاية الحقوق والواجبات وأثرها في صلاح الفرد والمجتمع” للدكتور خالد بدير
خطبة بعنوان: رعاية الحقوق والواجبات وأثرها في صلاح الفرد والمجتمع
لتحميل الخطبة أضغط هنا
ولقراءة الخطبة كما يلي:
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: أهمية الحقوق والواجبات وأثرها في توازن المجتمع.
العنصر الثاني: نماذج من الحقوق في الإسلام وأثرها في تحقيق رفاهية وسعادة المجتمع.
العنصر الثالث: أداء الواجبات وأثره في إصلاح الفرد والمجتمع.
المقدمة: أما بعد:
العنصر الأول: أهمية الحقوق والواجبات وأثرها في توازن المجتمع.
إن التوازن بين الحقوق والواجبات هو أساس كل حضارة، الحق في مقابل الواجب، والواجب في مقابل الحق. الحق أخذ، والواجب عطاء، ولا أخذ بلا عطاء، ولا عطاء بلا أخذ، فالواجب والحق متلازمان في كل تشريع سماوي أو وضعي، فالواجبات تقابلها الحقوق، والحقوق تقابلها الواجبات. العامل عمله التزام واجب، فإذا عمل صار له حق، وهو الأجر أو المكافأة، والطالب دراسته واجب، فإذا أدى واجبه صار من حقه أن ينال النجاح، والتاجر من الواجب عليه الأمانة في المعاملة، فإذا أدى ما عليه صار من حقه أن يأخذ الثمن، والإنسان أداؤه ما عليه من التزام ألزمه به الله جل جلاله كان ممن أدى الواجب، وكان حقاً له أن ينال الجزاء الأوفى من مولاه عز وجل. وهكذا…………إلخ، والقرآن الكريم حين يتحدث يربط بين الحق والواجب، ويجعل الواجب هو الأساس للفوز بالحقوق. يقول الله عز وجل: “إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ” ( محمد:7 )، ويقول عز وجل: ” إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ”( الرعد:11)، ويقول عز وجل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ”(الحديد:28)، فهذه كلها حقوق تقابلها واجبات، وفي الدعاء قال تعالى: “ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ “( غافر : 60)، وقوله تعالى:”وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ”(البقرة:186)، فيجب عليه لينال إجابة الدعاء أن يكون مطيعاً لله مؤمناً به حق الإيمان مستجيباً لأوامره، تاركاً لنواهيه.
إن أداء الواجبات كاملة بإتقان، وأخذ الحقوق كاملة دون نقصان؛ يحدث توازناً في المجتمع فلا تميل كفة عن الأخرى، ولو أخذنا مثالاً واحداً على ذلك، وليكن حق الفقير عند الغني، فلو منع الغني حق الفقير – المقرر شرعاً ليس منحة ولا تفضلاً- لازداد الغني غنيً والفقير فقراً، واختل التوازن في المجتمع. فعن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم ، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلا بما يضيع أغنياؤهم، ألا وإن الله عز وجل يحاسبهم يوم القيامة حساباً شديداً ، ثم يعذبهم عذابا أليماً » ( الطبراني)، وقال على رضي الله عنه – أيضاً-: “ما رأيت نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيّع”، وكما قال الشيخ الشعراوى رحمه الله: “إذا رأيت فقيراً في بلاد المسلمين .. فاعلم أن هناك غنياً سرق ماله”، وقال عمر رضي الله عنه: “ما تمتع غنيٌّ إلا من جوع فقير”، فضياع الحقوق وإهمال الواجبات حرمان في الدنيا فضلاً عن حرمان الآخرة.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:” يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ، يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِ، قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي، يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي” ( مسلم)
وقس على هذا المثال بقية الحقوق والواجبات التي في العنصرين التاليين.
العنصر الثاني: نماذج من الحقوق في الإسلام وأثرها في تحقيق رفاهية وسعادة المجتمع.
هناك كثير من الحقوق في الإسلام – إذا أديت على أكمل وجه عاش المجتمع في رفاهية وسعادة- وتتمثل فيما يلي:-
حق الحياة : فالإسلام يقرر حرمة الاعتداء على النفس “مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ” ( المائدة: 22) وكذلك ينهى الإسلام عن قتل الإنسان لذاته ويشنع مثل هذه الجريمة “وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا” (النساء: 29) ، وشرع القصاص لضمان حياة البشرية ” وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ” (البقرة:179)، حياة في الدنيا للناس بقطع دابر الجريمة.
حق الكرامة: إن الإسلام مثلما يقرر حق الحياة للإنسان يقرر كذلك منحه حق الكرامة، فالإنسان بالإسلام مكرم لذاته بصرف النظر عن انتمائه القومي أو الجنسي أو اللوني أو الديني “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ” ( الإسراء : 70)، وذات مرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس مع بعض أصحابه ” فمَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ فَقَالَ: أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟”( متفق عليه)
حق الحرية: إن الإسلام يعتبر تحرير الإنسان من أقرب القربات إلى الله تعالى، وأنزل الله جل شأنه نصوصاً قرآنية تأمر وتشجيع على تحرير الإنسان من الرق والاستعباد، ولقد ضرب لنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه – أروع الأمثلة في ذلك، فقد روي أن عمرو بن العاص رضي الله عنه، عندما كان واليًا على مصر في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، اشترك ابنٌ لعمرو بن العاص مع غلام من الأقباط في سباق للخيول، فضرب ابن الأمير الغلام القبطي اعتمادًا على سلطان أبيه، وأن الآخر لا يمكنه الانتقام منه؛ فقام والد الغلام القبطي المضروب بالسفر صحبة ابنه إلى المدينة المنورة، فلما أتى أمير المؤمنين عمر، بَيَّن له ما وقع، فكتب أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص أن يحضر إلى المدينة المنورة صحبة ابنه، فلما حضر الجميع عند أمير المؤمنين عمر، ناول عمر الغلام القبطي سوطًا وأمره أن يقتص لنفسه من ابن عمرو بن العاص، فضربه حتى رأى أنه قد استوفى حقه وشفا ما في نفسه. ثم قال له أمير المؤمنين: لو ضربت عمرو بن العاص ما منعتك؛ لأن الغلام إنما ضربك لسلطان أبيه، ثم التفت إلى عمرو بن العاص قائلاً: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟.
حق المساواة: يقرر الإسلام أن الناس سواسية أمام الشريعة الإسلام ” أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى)( الصحيحة للألباني)، وقال: «من بطأَ به عملهُ، لم يُسرعْ به نسبُه» (مسلم).
حق التعليم: يقرر الإسلام أن التعليم حق للجميع، ويكفي أن أول آية نزلت من القرآن “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ”( العلق: 1)
حق احترام الخصوصيات الشخصية: يقرر الإسلام عدم التجسس على الخصوصيات ( ولا تجسسوا ) وينهي رسول الهدى صلوات الله عليه عن تتبع العورات “لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ” (صحيح الترغيب والترهيب، الألباني)
حق الرعاية: يقرر الإسلام أن من واجب ولي الأمر رعاية مصالح الناس وتأمين ضرورات حياتهم وكرامتهم وأمنهم، وفي ذلك ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه “إن الله استخلفنا فيهم – أي الناس – من أجل سد جوعتهم وستر عورتهم وتأمين مهنتهم “
حقوق الوالدين: فقد قرنهما الله سبحانه وتعالى بين عبادته وعدم الإشراك به وبين الإحسان بهما فقال: “وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا” ( النساء:36)
حقوق الأبناء: وفى مقابل واجبات الأبناء نحو الوالدين نجد حقوقاً لهم وواجبات على الوالدين نحوهم، وتتمثل في حسن اختيار الأم عند الزواج، وتحصينهم من الشيطان عند الجماع، والأذان والإقامة في أذنيهم، وتحنيكهم بتمر، وحلق شعر رأسهم والتصدق بوزنه فضة، والتسمية الحسنة لهم، والعقيقة عنهم، والرضاعة والحضانة والنفقة وحسن التربية ورعايتهم وجدانياً وعاطفياً.
حق المرأة: جعل الإسلام للمرأة من الحقوق مالم تكن تطمع في بعضه، فبعد أن كانت تورث كالمتاع، أصبحت من جملة الورثة، وأصبح لها ذمتها المالية المستقلة، وأباح لها سبل الكسب والتجارة، وشاورها، واحترم رأيها، واستمع إلى شِكاتِها، ورفع الظلم عنها، وألزم الرجل برعايتها والإنفاق عليها، وأوصى بها في أكبر المحافل: «استوصوا بالنساءِ خيراً» (متفق عليه).
حقوق بين الزوجين: فقد اهتم بها الإسلام وبين الحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوجين، وجعل حفظ الحقوق بين الزوجين هو الأساس في صيانة وحماية المجتمع من أي انحراف أو انحلال. وبين رسول الله في خطبة الوداع جانبا من تلك الحقوق فيقول: ” اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ.”( مسلم)
ومن الحقوق المتبادلة أيضاً بين الزوجين أن يحفظ كل منهما سر الآخر ولا يذيعه، فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ” إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا “( مسلم)
حقوق الأقارب : يشدد الإسلام على صلة الرحم ويرهب من قطعها فيقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ “( البخاري )، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ” ( البخاري) وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ ، فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ “( مسلم)
حقوق العمال والأُجراء: «أعطوا الأجيرَ أجْره قبل أن يجفَّ عَرَقُه» (ابن ماجه). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “قَالَ اللَّهُ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ”(البخاري)
حقوق أرباب العمل: «إن الله يُحبُّ إذا عَمِلَ أحدُكم عَملاً أن يُتقِنَهُ» (البيهقي).
حقوق المسلم على أخيه المسلم: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :” حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ، قِيلَ مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ”(متفق عليه).
حقوق الخدم: فأعطى العبيد حقوقهم، وحفظ لهم كرامتهم، وانتشلهم من وهْدَةِ الضياع، ورغب في تحريرهم: «إخوانُكم خَوَلُكم، جعلهم اللهُ تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليُطْعِمْه مما يأكل، وليُلْبِسْه مما يلبسُ، ولا تُكَلِّفوهم ما يَغْلبُهم، فإن كلفتموهم، فأعينوهم» (البخاري). كما حث على العفو عنهم، كم أعفو عن الخادم يا رسول الله! قال: «في كل يومٍ سبعين مرة!!» (أبو داود).
حقوق الأرامل واليتامى: «السّاعي على الأرملةِ والمسكينِ كالمجاهدِ في سبيلِ الله» (متفق عليه). «أنا وكافلُ اليتيم في الجنة هكذا» وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى. (البخاري).
حقوق ولاة الأمور على الرعية: «من يُطع الأميرَ فقد أطاعني، ومن يَعصي الأميرَ فقد عَصَاني» (متفق عليه).
حقوق الرعية على ولاة الأمور: « مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ » (أبو داود).
حقوق الحيوان: «وفي كلِّ كبدٍ رطْبَةٍ أجْرٌ» (متفق عليه).
حقوق البيئة: «ما من إنسانٍ يغرسُ غرسًا أو يزرعُ زرعاً، فيأكلُ منه إنسانٌ أو حيوانٌ أو طيرٌ، إلا كان له به صدقَةٌ» (متفق عليه).
وحذر من إهمال تأدية الحقوق إلى أصحابها: «من كانت عنده مظلمةٌ لأخيه، فليتحلّلْه منها، فإنه ليس ثَمَّ دينارٌ ولا درهمٌ، من قبل أن يؤخَذَ لأخيهِ من حسناتهِ، فإن لم يكن له حسناتٌ أُخذ من سيئاتِ أخيهِ فطُرحَتْ عليهِ» (البخاري).
حقوق غير المسلم في الإسلام: ذكر القرآن الكريم حق المساواة بين المسلم وغير المسلم في الحقوق المدنية في الدولة الإسلامية، ودعوة للعدل حتي وإن كان الشخص الذي يعامل غير مسلم، فالأساس في التعامل هو معاملة الله وليس خلقه، قال تعالى: “لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ”( الممتحنة:8)
هذا بعض ما جاء به صلى الله عليه وسلم للبشرية، فيه كل ما يتمناه ذو عقل راجح، وفطرة سليمة، فما أحوجنا إلى تعلم ما قرّره النبيُّ من حقوق للآخرين، وتأديته إليهم على أكمل وجه، إننا إذا فعلنا ذلك كنا دعاة للإسلام بحقٍّ ولو لم ننطق بكلمة.
أحبتي في الله:كل حق من هذه الحقوق يحتاج إلى جمعة كاملة؛ وحسبي ما ذكرت، فقد كُتِبَت في تلك الحقوق مجلداتٌ، وسنتكلم عنها بالتفصيل عند ذكرها في خطبٍ منفصلة، واعلم أن هذه الحقوق تقابلها واجبات نحو ربك ووطنك وإخوانك، كما في عنصرنا التالي.
العنصر الثالث: أداء الواجبات وأثره في إصلاح الفرد والمجتمع
هناك واجبات كثيرة على المسلم تجاه ربه ونفسه ووطنه وذويه، تتمثل فيما يلي:-
واجب المواطن تجاه ربه وخالقه: وهو العبادة: فعَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:” كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ ، فَقَالَ: يَا مُعَاذُ هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا.” ( متفق عليه )
واجب المواطن تجاه والديه: وهو الإحسان إليهما وبرهما في حياتهما وبعد مماتهما، وعظم الإسلام من شأن طاعة الوالدين، وقرن ذلك بطاعة سبحانه “وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا” ( الإسراء : 23 ، 24)
واجب المواطن تجاه أسرته: تعليمهم الدين والعبادات ، لأنه مسئولٌ عن ولده وزوجه وأبويه يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: « إن الله سائل كل راع عما استرعاه ، أحفظ أم ضيع؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته » ( السلسلة الصحيحة، الألباني)
واجب المواطن تجاه المجتمع: يوجب الإسلام على المواطن تجاه مجتمعه واجبات عديدة نوجزها بما يلي:-
– المحافظة على الوحدة الوطنية، وعدم إثارة الفتن والشغب، أو التآمر مع الغير ضد سيادة الوطن ووحدته الاجتماعية.
– العمل على تقوية التنمية الزراعية وتطويرها وعدم الاعتداء على محاصيلها ، مع السعي المخلص لإثراء التنوع الزراعي بما يحقق كفاية الأمة ويعزز مصادر مواردها الاقتصادية ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ” إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها “.( السلسلة الصحيحة، الألباني)
– العمل على إثراء التنمية الصناعية وتحسينها امتثالاً لأمر رسول الله عليه الصلاة والسلام ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه). ( السلسلة الصحيحة، الألباني)
– المحافظة على البيئة وعدم إفسادها فهي سكن الإنسانية جمعاء وملاذ أمنهم المشترك “وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ”(الأعراف: 56)
– المحافظة على أموال الآخرين وعدم الاعتداء عليها “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ” ( النساء: 29 )،
ـ العمل على إيجاد روح المحبة وحب الخير للناس يقول عليه الصلاة والسلام (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)البخاري
ويحضرني – في بلوغ المحبة أعلى درجاتها – قصة ابن عباس رضي الله عنهما، فهذا رجل يَسُبُّه ويشتمه أمام الناس، فيكظم غيظه ولا يرد عليه، فما زال الرجل يسبه ويشتمه، فقال له ابن عباس: أتشتمني وتسبني وفيَّ ثلاث خصال. قال: وما هي؟ قال: ما نزلت الأمطار في أرض إلا سررت بذلك وليس لي في تلك الأرض شاة ولا جمل، وما سمعت بقاضٍ عادل إلا حمدت الله ودعوت له في ظهر الغيب وليس لي عنده قضية، وما تعلمت آية من كتاب الله أو حديثاً من سنة رسول الله r إلا وددت أن كل مسلم علم منها ما علمت.
فابن عباس ليس له مصلحة في الثلاث، ولكنه يفرح ويسعد للخير الذي يعم غيره، فانظر إلى الحقد الذي بين أصحاب الزراعات والتجارات اليوم، بل الحقد الذي بين الطلاب الذين يتلقون أشرف العلوم وأطهرها، كم يحقد الزميل على زميله!!
واجب المسلم تجاه مظالم العباد: إياكم إياكم من مظالم العباد، فينبغي ويجب أن يُؤدَّي إلي كل ذي حق ٍ حقه، وإذا أدينا حق الله ولم نؤد حق الناس فلسنا بسالمين ولسنا بآمنين، فالمظالم لها مُطالبٌ يوم القيامة , قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:” لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ” ( مسلم) ، وقَالَ: “الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” ( البخاري)، ظلمات حينما تأتي تمر علي الصراط وأنت أحوج ما تكون إلي أن تستضئ الصراط وتبصره حتي تمر عليه بسلام وأمان, فظلمك يسبب لك ظلمات هنالك فتتلكب عياذاً بالله عن الصراط كما تلكب أقوام عن الصراط، فتزل قدمك عن الصراط فتسقط في الجحيم والعياذ بالله، فالظلم عاقبته وخيمة ويكفي أن تعلم أن دعوة المظلوم تطاردك, تطاردك في ممشاك، تطاردك في بيتك، تطاردك في عملك، تلاحقك في ولدك وزوجك وابنتك وبدنك، فتوقع أيها الظالم يوماً ما تتحقق فيك دعوة المظلوم إذا لم تؤدِ له حقه ولعله لا يخفي عليكم أمر الصحابي المبشر بالجنة سعد بن أبي وقاص المظلوم من أهل الكوفة، إذ كان أميراً عليهم وقالوا فيه إنه لا يحسن الصلاة، إنه جبان، إنه ظالم، اتهموه بأنواع التهم وهو العادل، وهو أول من رمي بسهم في سبيل الله يوصف بأنه جبان؟!! فأرسل عمر من يتفقد الأحوال ويتحرى الحقائق، فأتي رسول عمر إلي مسجد من مساجد الكوفة أكبر مساجدها يسأل عن سعد وهكذا التثبت, فقال: أناشدكم بالله أن تقولوا في سعد الذي علمتموه، فقام قائم وقال: أما وقد ناشدتنا بالله فإن سعداً لا يخرج في السرية، ولا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية، فتحير سعد أمام هذا البهتان!! فقال: وبث شكواه لله أمام هذا الظالم، اللهم إن كنت تعلم أن عبدك هذا قام مقام رياء وسمعة، اللهم فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن، وبعد سنين طالت بهذا الرجل، انحني ظهره وسال لعابه وسقط حاجبه علي عينه، ومع هذا يمشي يُغَمِّز الفتيات، وإذا عوتب قال: شيخ فقير ضرير مفتون أصابتني دعوة سعد .
فدعوة المظلوم تلاحقك ولو بعد حين، وصدق النبي الأمين إذ قال: “إياك ودعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب، يرفعها الله فوق الغمام ويقول بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين ” ( مصنف ابن أبي شيبة) ، فاحترس من ظلم العباد.
واجب العفو عن الآخرين: فمن أهم واجبات المؤمن نحو أخيه العفو ولا سيما في الآخرة، فيكون عفوك هذا طريقاً للجنة، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ إِذْ رَأَيْنَاهُ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ ثَنَايَاهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟ قَالَ: “رَجُلَانِ مِنْ أُمَّتِي جَثَيَا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعِزَّةِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَبِّ خُذْ لِي مَظْلَمَتِي مِنْ أَخِي، فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلطَّالِبِ: فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِأَخِيكِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيْءٌ ؟ قَالَ: يَا رَبِّ فَلْيَحْمِلْ مِنْ أَوْزَارِي ” قَالَ: وَفَاضَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِالْبُكَاءِ، ثُمَّ قَالَ:” إِنَّ ذَاكَ الْيَوْمَ عَظِيمٌ يَحْتَاجُ النَّاسُ أَنْ يُحْمَلَ عَنْهُمْ مِنْ أَوْزَارِهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلطَّالِبِ: ” ارْفَعْ بَصَرَكَ فَانْظُرْ فِي الْجِنَّانِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أَرَى مَدَائِنَ مِنْ ذَهَبٍ وَقُصُورًا مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةً بِالُّلؤْلُؤِ، لِأَيِّ نَبِيٍّ هَذَا أَوْ لِأَيِّ صِدِّيقٍ هَذَا أَوْ لِأَيِّ شَهِيدٍ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا لِمَنْ أَعْطَى الثَّمَنَ، قَالَ: يَا رَبِّ وَمَنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَنْتَ تَمْلِكُهُ، قَالَ : بِمَاذَا؟ قَالَ: بِعَفْوِكَ عَنْ أَخِيكَ، قَالَ: يَا رَبِّ فَإِنِّي قَدْ عَفَوْتُ عَنْهُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَخُذْ بِيَدِ أَخِيكَ فَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُصْلِحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.”( الحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.)
أيها الأحبة إن الواجبات والحقوق لم تقف عند هذا الحد بل تمتد لتشمل حقوق وواجبات الطعام والشراب، فقد ذكر العلماء في أبواب المظالم حقوقاً للشاربين معك، وأنت لا تكاد تتصور أن هذا ظلم، من ذلك عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ “أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الْأَشْيَاخُ فَقَالَ: لِلْغُلَامِ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ الْغُلَامُ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا، قَالَ فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ” ( متفق عليه) أي وضعه في يد الغلام ليشرب لأن هذا حقه، فنبينا يعلمنا أدباً جميلاً، يستأذن الغلام سيدُ ولد آدم لأن الغلام له حق لكونه علي اليمين. يا غلام, أتأذن لي أن أعطي هؤلاء الأشياخ؟ فالغلام يصر علي حقه ويقول ما كنت لأوثر بنصيبي منك أحداً يا رسول الله، أي أنا لا ائذن ليس عن سوء أدبٍ ولكني أحب أن أشرب بعدك يا رسول الله, فيناوله النبي القدح قبل الشيوخ كبار السن فللأيمن حق إن سلبته هذا الحق فقد ظلمته، وقد لا تعبأ أنت بمثل هذه الجزئيات ولكنها مظالم، ولو لم تكن ما استأذن النبي الغلام كي يسقي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ، ولكنه الحق الذي يعلو ولا يعلي عليه، هكذا في شريعتنا.
كما ذكر العلماء في أبواب المظالم حقوقاً للآكلين معك، فإذا دعاك شخص لاستضافتك ليس من حقك دوماً في كل الأحوال أن تأخذ من شئت، فرب البيت رتب نفسه علي عدد، فلا تباغته بأعداد. فعن أَبي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ:”كَانَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يُكْنَى أَبَا شُعَيْبٍ وَكَانَ لَهُ غُلَامٌ لَحَّامٌ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي أَصْحَابِهِ فَعَرَفَ الْجُوعَ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَهَبَ إِلَى غُلَامِهِ اللَّحَّامِ فَقَالَ: اصْنَعْ لِي طَعَامًا يَكْفِي خَمْسَةً لَعَلِّي أَدْعُو النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَامِسَ خَمْسَةٍ، فَصَنَعَ لَهُ طُعَيِّمًا ثُمَّ أَتَاهُ فَدَعَاهُ، فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا شُعَيْبٍ، إِنَّ رَجُلًا تَبِعَنَا فَإِنْ شِئْتَ أَذِنْتَ لَهُ وَإِنْ شِئْتَ تَرَكْتَهُ، قَالَ: لَا بَلْ أَذِنْتُ لَهُ ” ( البخاري ) فإذا كان عند رب البيت سعة ويُعلم من حاله أنه لا يتبرم ولا يتضايق جاز لك أن تصطحب غيرك، ولكن التأصيل الشرعي أنك لا تصطحب شخصاً إلا بإذنٍ، ولا سيما إذا كان أهل البيت من ذوي القلة من الذين قدرت عليهم أرزاقهم.
وفي مظالم الأطعمة أيضاً، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ” البخاري ” ذكر العلماء في هذه الفقرة الأخيرة صورًا منها مثلاً: أن تذهب إلي قوم يقدمون لك طبق الفتة عليه لحم الناس كلهم حول الطبق، تأتي أنت بطمعك وجشعك تمد يدك إلي أعظم قطعة تلتهمها، ومن عنده حياء حرم بسببك، “فلا يتنهب النهبة يرفع القوم إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن” قال ابن عباس : فإن فعل وهو يرى أن ذلك محرم عليه فهو مؤمن، فإن فعل ذلك وهو يرى أن ذلك ليس بمحرم عليه فليس بمؤمن، إن شاء الله عذبه، وإن شاء رحمه.
هذه مظالم قد لا تتصورها، قد لا تتوقعها ، ولكنها ثابتة في كتب المظالم ، يقول أهل العلم في أبواب المظالم أن من أتلف شيئاً فعليه إصلاحه، ويستدلون بأن النبي صلي الله عليه وسلم ” كان في بيت بعض نسائه، فأرسلت له زوجة من الزوجات طعامًا في صحفة، فغارت التي في بيتها النبي صلي الله عليه وسلم فأتت بحجر وكسرت الصحفة، فتبسم النبي عليه الصلاة والسلام وطفق يجمع الطعام قائلاً: غارت أمكم” “والحديث في البخاري “، ولكن مع تبسمه لم يسقط حق المظلوم، فأخذ صفحة التي كسرت وردها لصاحبة الصحفة المكسورة، وأخذ الصحفة المكسورة لمن كسرتها، حتى لا تظلم إحداهن على حساب الأخرى، فهكذا تؤدي الحقوق والمظالم .
أيها الإخوة: الحقوق للعباد كثيرة، تفقهوا في دينكم حتى تعلموا ما الذي لكم وما الذي عليكم فتؤدوا للعباد حقوقهم؟ فإن لنفسك عليك حقاً، وإن لربك عليك حقاً، وإن لزورك أي لضيفك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حقٍ حقه.
أيها الإخوة المؤمنون: كل منا تحمل مسئولية فهو مسئول عنها أمام الله يوم القيامة، المدرس مسئول عن الطلبة فلابد أن يعطيهم حقوقهم، وللمرضي حقوق واجبات على الأطباء، وللجمهور حقوق على الأئمة والخطباء والمؤذنين والعمال، ولصاحب المصنع حقوق على عامليه، وقس على ذلك بقية فئات وأصناف المجتمع ، وقد جمع نبينا ذلك في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ” ( متفق عليه ) فأنت مسئول عن من هم تحت يديك إن أضللتهم أو غششتهم، مسئول كنت وزيراً ، كنت رئيساً، كنت رب بيت، كنت مديراً، كنت كنت كنت، عليك أن تتفقد أحوالهم، من المحتاج وما حاجته؟ وهل في وسعك سد حاجته أم ليس في وسعك ذلك؟ عليك أن تتفقد أحوالهم، فتكرم من أهين منهم، وتعز بإذن الله من أذل منهم، وتعطي المحروم منهم.
أحبتي في الله : والله الذي لا إله غيره، لو أدى كل إنسان واجبه على أكمل وجه دون نقصان، وأخذ كل واحد حقه دون زيادة؛ لصلح حال البلاد والعباد، والراعي والرعية، وما صرنا إلى ما نحن فيه. أختم حديثي معكم بهذه القصة التي بينت صفات المجتمع المسلم في عصر الخلافة الراشدة؛ ومالهم من حقوق وما عليهم من واجبات. روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه عين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاضياً على المدينة، فمكث عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة كاملة لم يختصم إليه اثنان، لم يعقد جلسة قضاء واحدة، وعندها طلب من أبي بكر الصديق إعفاءه من القضاء، فقال أبو بكر لعمر: أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟ قال عمر: لا يا خليفة رسول الله، ولكن لا حاجة لي عند قوم مؤمنين عرف كل منهم ما له من حق فلم يطلب أكثر منه، وما عليه من واجب فلم يقصر في أدائه، أحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، إذا غاب أحدهم تفقدوه، وإذا مرض عادوه، وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب عزوه وواسوه، دينهم النصيحة، وخلتهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيم يختصمون؟!!
قارن بين ذلك وبين حالنا اليوم!!! سأضرب لك مثالاً واحداً عملياً من واقعنا المعاصر، جلس معي منذ أيام أحد المحامين ودموع التوبة تنهمر من عينيه قائلاً، كنت لا أبالي بأكل الحرام، وأريد أن أتوب، قلت له اضرب مثالاً، قال: اقترضت مبلغاً من المال من جهة رسمية، ثم رفعت عليهم دعوى قضائية بنفي ذلك، وكسبت القضية، تعجبت!!! كيف ذلك؟!! قال هذه مهنتي!!! نصحته كثيراً ، وبينت له خطورة المظالم في الدنيا والآخرة. فانظر كيف جعل الحق باطلاً والباطل حقاً، وهذا مثال، والجعبة مليئة، بل الواقع أملأ. فإذا كان هذا استطاع بمهارته أن يهضم حق جهة رسمية، فما أسهل أن تهضم الحقوق بين المسلمين بعضهم البعض!!!!
هذا يذكرني بقصة طريفة، أن كلباً مملوكاً لأحد الأغنياء قام بِعَضِّ رجلٍ فقيرٍ، فاشتكى الفقيرُ الغنيَّ للسلطات، فترافع الغنيُّ بمجموعة من المحامين المهرة، وأثبتوا أن الفقير هو الذي عض الكلب!! فبذلك تضيع الحقوق في المجتمع، فعلينا أن نرجع إلى تعاليم ديننا ونعطي كل ذي حق حقه دون نقصان، ونتقن أعمالنا ونقوم بواجباتنا دون تقصير. فعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” سَتَكُونُ أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ” (متفق عليه)
إننا إن فعلنا ذلك عشنا في أمن وأمان، وسعادة ورخاء، وحب وثقة واستقرار.
أسأل الله أن يرد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً.
كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي